رحلة الموت..مأساة بحث اليمنيين عن فرصة عمل في الخارج

عنوان البروفايل
اسم الكاتب عبدالرحمن الشماع

خلافا لعادته في كل مرة يودع فيها أسرته، متجها لجهة عمله، ودع الشاب الثلاثيني عبد الحميد كوكبة أفراد أسرته، وقبضة الحزن تُحكم على قلبه، احتضن طفليه بحراره، وسالت الدموع من عينيه كما يسيل السيل في خريف الأمطار، كما لو أنه يشعر بأنه الوداع الأخير لأسرته، كان إحساسه مفعما بالخوف، لم تمض سوى أيام على مغادرته، مسقط رأسه بمحافظة المحويت، حتى تلقت أسرته اتصالا هاتفيا كان الأقسى والأكثر إيلاما في حياة الأسرة..


عبد الحميد هو أحد ساكني قرية (كوكبة)، بمديرية حفاش، التي تبعد خمسة وعشرين كيلو متر، عن مركز محافظة المحويت، يعيش بالمديرية مع 37,884 شخصا، يصارع معظم شبابها الأوضاع الاقتصادية المتردية في اليمن، والتي بسببها قرر الكثير منهم ترك الوطن، والاتجاه نحو الخارج عبر التهريب، بحثا عن كسب لقمة العيش، مجبرين على السير في طرق محاطة بكمائن الموت، حالهم كحال ملايين الشباب اليمني، لتنتهي رحلة البعض منهم بنهاية مأسوية، لقوا حتفهم، وعادوا إلى أسرهم جثث على سيارة الإسعاف.

عبد الحميد الذي كان يعمل بمحافظة صعدة، أجبرته أوضاع البلاد المتردية، على التفكير بمغادرة الوطن، منتصف يونيو من العام 2021، حيث قرر مع مجموعة من شباب قريته، دخول السعودية، عن طريق التهريب برا.


وداع مؤلم

بعينين محمرتين مليئتين بالدموع، وصوت ضعيف لا تفهم بعض كلماته، تروي والدة عبد الحميد، مشهد وداعه الأخير لأسرته، تقول" ضم طفليه شيماء سبع سنوات، ومحمد خمس سنوات، وهو ويبكي ويقول: أولادي في أمانتك يا أمي"، انهمرت الدموع من عينيها، وصمتت للحظة، ثم استأنفت حديثها وتناهيد الألم تعصر كلامها، قائلة " ذهب على قدميه وعاد محمولاً على الأكتاف، ولدي لم يكن كعادته في كل مرة يودعنا، ودعني وهو يبكي، وكذلك ودع أبيه وزوجته، لم أرَ زوجته تبكي وهي تودعه، إلا تلك المرة، حتى أنه ذهب لتوديع بقية أقاربه، قبل أن يغادر القرية، عندها شعرت بالخوف والقلق، ولم يكن مثل هذا الخوف لدى أسر الشباب الذي غادروا القرية معه".

كانت الساعة التاسعة صباحًا من يوم السبت 6/16/ 2021، عندما غادر عبد الحميد مع مجموعة من رفاقه قريتهم (كوكبة) ذات التضاريس الوعرة، وقد وصل عند غروب شمس يوم الأحد إلى منطقة عمله (الرقو) شمال صعدة، وهي الأخرى لا تختلف عن تضاريس منطقته، وهي بالإضافة إلى ذلك منطقة موبوءة بالكثير من الأمراض والأوبئة، مثل حمى الضنك وبعض الأمراض الجلدية، ولأنها محاذية للحدود السعودية، تشهد أحداثا مأسوية بشكل شبه يومي، إذ يصل إليها الكثير من الأشخاص الذين يحاولون التسلل عبر الحدود إلى السعودية، وهم في حالة مأساوية، قتلا وجرحى، وبهم من الرعب والخوف ما يصل حد الجنون، نتيجة الاستهداف المتعمد لهم من قبل سلاح حرس الحدود السعودي.


الاتصال الأخير

تتابع والدته حديثها لنا، ولا شيء يطغى على كلامها سوى الحزن والأسى، تقول لأطياف " اتصل بنا في اليوم التالي لمغادرته القرية، أطمأن قلبي عندما اتصل ليبلغنا بوصوله فقلت له انتبه لنفسك، وتساءل عن حال زوجته وولديه، واعدا إياهم بمعاودة الاتصال بهم بعد صلاة العشاء "

وحسب تعبير والدة عبد الحميد اتصل بأسرته في الساعة العاشرة مساءً على غير عادته، فهم متعودون أن يتصل بهم في الصباح أو بعد الظهر، وانتابهم الخوف والقلق من اتصاله، فقد كان صوته متغير، يتنفس بسرعه، ويتكلم بقلق، اتصل وهو محاصر تحت نيران سلاح حرس الحدود السعودي، كان قد تعدى الحدود السعودية، إلا أنه فوجئ بالوضع المشدد للحرس السعودي، كانوا مستعدين والسلاح مجهز لقتل أي متسلل، أراد أن يرسل إشارة لزملائه، إلا أن تلك الإشارة كانت قاتلة، قتلته برصاصة قناص، ظل ينزف لساعات، ومنع الحرس زملاءه من محاولة إنقاذه، وسمح لهم بالوصول إليه، بعد أن فارق الحياة، حينها حُملَ إلى سوق (الرقو)، لتحمل جثته بعد ذلك على سيارة شاص إلى صعدة، تقول والدته "أي قلب كان يمتلكه ذلك الجندي الذي قتل ولدي، وتركه ينزف ويتعذب، لن أسامحه"، تضيف وكل كلامها تناهيد وبكاء " في اتصاله الأخير طلب مني ومن زوجته ومن كافة أبناء القرية المسامحة، واستوصانا بأولاده الإحسان في تربيتهم وتعليمهم".

عاشت أسرة عبد الحميد تلك الليلة في قلق لا يوصف، كان الوقت يمر عليها ككابوس، لم ينم أحد منهم، كانوا يتواصلون بأبناء القرية الذين يعملون هناك، وكانت الإجابات تتشابه لدى الجميع، سيعود الساعة التاسعة صباحًا ويتصل بكم، لكن الصباح حل عليهم بثقله وهمه.

لحظة الصدمة

في الصباح الباكر من يوم 18/ 7/ 2021، وحين كانت الشمس تمد خيوطها الأولى على قرية عبد الحميد (كوكبة) تلقى والده اتصالا من أحد شباب القرية، يتحدث بصوت متقطع وغير مفهوم، مصحوبا بالبكاء، وقتها أرتفع صوت الأب، وجثى على ركبتيه، وانهار بالبكاء، سارعت زوجته، لتسأله لماذا يبكي، وقد شعرت بأن ابنها أصابه مكروه، أجابها الأب بكلمتين "مات، مات"، لم تتملك أم عبد الحميد قلبها، لقد وقع الخبر عليها كالصاعقة، أغمي عليها، وحينما صحت احتضنت طفلي عبد الحميد، شيماء ومحمد وهم يبكيان، وهي تقول "عبد الحميد لم يمت هو حي سيعود، أبوكم لم يمت ".

كان البكاء يصدر من كل بيت وكأن شباب القرية قد قتلوا جميعاً في هذه الحادثة، في منتصف اليوم التالي، وحينما كانت الشمس في كبد السماء، وصل جثمان عبد الحميد على سيارة شاص، بعد أن نُقل من على سيارة الإسعاف التي لن تستطيع أن تصل إلى قمة الجبل حيث مرقده الأخير، بسبب وعورة الطريق الجبلية، وكان الناس في انتظار وصول جثة عبد الحميد، لقد توافدوا من كل أرجاء المديرية، حينها حملوه على الأكتاف إلى أهله، والحزن يخيم على الجميع، القت أسرته وطفلاه شيماء ومحمد النظرة الأخيرة، ليحمل بعدها إلى مرقده الأخير بعد الصلاة عليه، عاد الناس لإكمال مراسيم التعزية، ولا حديث لهم سواء مأساة شبابهم، وملايين الشباب اليمني الذين أُوصدت أمامهم أبواب الرزق في الداخل، فحاولوا ترك الوطن، باحثين عن عيش كريم، لكن أقدراهم السيئة قادتهم من الجوع إلى الموت.

الأكثر قراءة

مقالة 1 أفراح ناصر ...من الكتابة باسم مستعار إلى جوائز دولية بحرية الصحافة
مقالة 2 أيوب طارش..صوت القلب ونبض الوطن والأرض
مقالة 3 هديل مانع لـ"أطياف": المجتمع اليمني مشكلة لأي فنان وزواجي المبكر كان عائقا أمام طموحاتي الفنية
مقالة 3 الكابتن علي النونو لـ"أطياف" "وزير الرياضة ليس رياضيا"
مقالة 5 المتطوع الناشط...يحيى الحيمي

اشترك في نشرتنا البريدية

نسر يمني

الجمهورية اليمنية

وحدة - حرية - استقلال

صمم الموقع بواسطة [حاتم]