مأرب تنتفض على قوافي الموت

عنوان البروفايل
اسم الكاتب حاتم السقاف

لم يكن محمد زايد يتوقع أن يأتيه صديق، يحمل معه ذهب زوجته وشقيقته، طالباً قرضاً بمليون ريال، كل ذلك فقط ليشتري «قافي» يقدمه في عزاء صديق، بهذه القصة البسيطة، يختصر محمد (52 عاماً) جانباً من معاناة المجتمع في مأرب مع عادة القوافي.


و«القوافي» لمن لا يعرفها تعني في لهجة أهل مأرب، الواجب الاجتماعي المقدم عادة في مناسبات العزاء، عبر المال أو الذبائح، ورغم أن القافي يرتبط بكرم الضيافة وتماسك القبيلة، إلا أنه بات عبئاً اقتصادياً خانقاً لا يرحم الفقراء ولا الأغنياء.


عبء ثقيل

«في مأرب، تسعى القبائل إلى منع الفوارق الطبقية عبر الغرم الجماعي»، يقول ذلك محمد زايد لـ "أطياف"، مضيفاً: «تتكفل القبيلة كاملة بكل متطلبات العزاء، ثم تعيد توزيع التكاليف بالتساوي على الجميع، فلا يظهر أهو غني أم فقير».


لكن تحت هذا الغطاء الجماعي، يختبئ واقع قاسٍ، إذ يتحول العزاء إلى سباق لاستعراض الكرم، يعيش فيه الناس حالة دائمة من الاستنفار، محمد يصف المشهد قائلاً: «تجد الرجل يعيش في خيمة، ويربي الغنم تحسبا لأي عزاء، إما ذاهباً بقافي أو مستقبلاً له».


القافي، الذي قد تصل تكلفته إلى مليون ريال يمني، أو نصف مليون ريال، لا ينتهي بتقديمه فقط، بل يتحول إلى دين ثقيل، الشيخ أحمد الطيارة أحد مشائخ قبيلة مراد يقول: «إذا أعطيت قافي، يصبح ديناً مضاعفاً على أهل العزاء، يجب رده في عزائك أنت، مهما كلف الثمن ولو اضطررت لبيع ذهب نسائك».

ثورة

مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في اليمن، بدأت أصوات داخل مأرب ترتفع مطالبة بوقف هذا التقليد الذي أثقل كاهل الناس، غير أن هذه الأصوات غالباً ما تتعثر أمام هيبة العادات الراسخة؛ فمن النادر أن يرد أحد ضيفاً أتى بقافي، لكن شيئاً ما بدأ يتغير، فقد وقعت عدة قبائل معاهدات تلزم أبناءها بقطع القوافي، كانت البداية من وادي عبيدة، حيث اجتمع آل عقار، في يوليو الماضي، على توقيع وثيقة تقضي بوقف القوافي "تخفيفاً عن أهل المصاب"، كما يوضح محمد بن عقار لـ"أطياف" يقول: «رأينا كيف يضطر بعض الناس للاقتراض لتحمل نفقات قافي، وأدركنا أن القوافي أصبحت عبئاً يناقض أبسط قيم الرحمة».


وسرعان ما تبعتهم قبائل مراد بتوقيع معاهدة مماثلة، مستندة إلى فتاوى شرعية تؤكد أن الولائم في العزاء ليست من السنة، الشيخ أحمد الطيارة يقول: «القوافي لم يأت بها الشرع، ولا يصل الميت منها شيء، بل تفتح باب التفاخر والإسراف».

ورغم هذه الخطوات الشجاعة، لا تزال العادة قائمة بين مراد وغيرها من القبائل خارج نطاق المعاهدة، مما يضعف جهود الإصلاح.

وجه آخر للمقاومة

التحرك لم يقتصر على القبائل الكبرى، ففي منتصف أغسطس، وقعت ديرة آل حيمد مع سكان حي المشاور وثيقة لقطع القوافي، لتشمل أهل البلاد والمقيمين والنازحين، الشيخ حمد آل حيمد أحد الموقعين على المعاهدة قال لـ"أطياف": «تحركنا كان بدافع ديني وإنساني، فالنازحون وغيرهم لم تعد ظروفهم تحتمل المزيد من الأعباء»، ويضيف: «العزاء يجب أن يكون وقفة مع أهل المصاب، لا مناسبة لإرهاقهم بالذبائح والقوافي والدين»، ومع ذلك تبقى هناك قلة لم تلتزم بالمعاهدات، متمسكة بواجب اجتماعي يرونه جزءاً من الكرامة والشرف، لكن كثير من الملتزمين بمعاهدات قطع القوافي يرون أن الزمن كفيل بتغيير هذه النظرة.


هل تموت القوافي حقاً؟

في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، يبدو أن مستقبل القوافي معلق بين ماضٍ عريق وحاضر ضاغط، الخبير الاجتماعي مسعد عكيزان يوضح أن القوافي كانت أصلاً مبادرة تكافل بسيطة، «يقدم الناس رأس غنم أو مالاً رمزياً لمساعدة آخرين في مصابهم»، لكن مع ندرة المواشي وغلاء الأسعار، تحولت القوافي إلى عبء لا يُطاق، ويرى عكيزان أن المعاهدات وحدها لا تكفي: «لا بد من جدية وضوابط صارمة لمعاقبة من يخالفون».


أما عبد الرحمن الوهبي، فيعتقد أن قطع القوافي له سلبياته أيضاً، إذ يخشى أن يؤدي تلاشي هذه العادة إلى فتور في العلاقات الاجتماعية، التي ظلت القوافي ترسخها لعقود، وبين شد العادة وجذب الحاجة.


تبقى مأرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تُعيد تعريف إرثها الاجتماعي بما يتناسب مع واقعها الجديد، أو أن تبقى رهينة تقاليد كانت يوماً رمزاً للكرم، وصارت اليوم عبئاً لا يُطاق.

الأكثر قراءة

مقالة 1 أفراح ناصر ...من الكتابة باسم مستعار إلى جوائز دولية بحرية الصحافة
مقالة 2 أيوب طارش..صوت القلب ونبض الوطن والأرض
مقالة 3 هديل مانع لـ"أطياف": المجتمع اليمني مشكلة لأي فنان وزواجي المبكر كان عائقا أمام طموحاتي الفنية
مقالة 3 الكابتن علي النونو لـ"أطياف" "وزير الرياضة ليس رياضيا"
مقالة 5 المتطوع الناشط...يحيى الحيمي

اشترك في نشرتنا البريدية

نسر يمني

الجمهورية اليمنية

وحدة - حرية - استقلال

صمم الموقع بواسطة [حاتم]