الرجال لم يُخلقوا للحضارة

منذ فجر التاريخ، والرجل لا يعرف طعمًا للسكينة. فالهندسة الوراثية صاغته ليكون مقاتلًا، صيادًا، عاملاً، منشغلاً بالميدان أكثر من الفكر، وبالفعل أكثر من القول. ليس ذلك تهمةً، بل هو توصيف لحقيقة بيولوجية ونفسية؛ فالرجل، بكل ما فيه، أقرب ما يكون إلى آلة عضوية ومولّد طاقة لا ينضب. لذا، لا غرابة أن يتمرد على السكون، ويشعل فتيل الحروب. فلكل رجل سليم العقل والجسد معركته الخاصة التي تمنحه نشوة الانتصار ومتعة الغلبة على الخصم، أيًّا كان.
وإذا ما عمَّ السلامُ وهدأت الجبهات، يشعر البعض منهم بعجز كامن، وكأن غريزته في النزال تُخمد، فيبحث عن عدوٍّ ولو في الخيال، عن ساحة حربٍ ولو افتراضية. نحن - بطريقة أو بأخرى - أسرى لجيناتنا، أو كما يُفضِّل البسطاء تسميتها بـ"الفطرة". نجوع فنأكل، نعطش فنشرب، نغضب فنقاتل، والخروج من هذا القالب الفطري ليس سوى طريق مؤلمٍ مليءٍ بالمعاناة الجسدية والنفسية. قد نحاول جاهدين كبح تلك النوازع، لكننا غالبًا ما نجنح إلى تصريفها، لا إنكارها.
من هنا، تنشأ وسائل "تصريف" هذه الطاقة، بعضها سلبي وبعضها أقل ضررًا. خُذْ على سبيل المثال ألعاب الفيديو القتالية مثل (PUBG) وسواها في الدول "المتحضِّرة"، التي تمثل محاكاةً رقميةً للحرب، تُغذي نزعة السيطرة والنصر وتُفرِّغ العدوانية في قالب "آمن". وعلى جانب آخر، تستغل الجماعات المتطرفة هذه النزعة ذاتها لتجنيد الأفراد، تحت ستار ديني أو أيديولوجي، مدفوعين بإحساس داخلي بأنهم يخوضون "معركة مقدسة".
وفي المقابل، نجد المرأة تتحرك في اتجاه مختلف تمامًا. فمصدر الرضا عندها يتجلَّى في الاستقرار، لا الصراع، في خلق الحياة ورعاية الضعفاء، لا سحقهم. في الوقت الذي يبحث فيه الرجل عن معركة جديدة كلما شعر بالأمان، تسعى المرأة إلى تعزيز هذا الأمان ومنع أسبابه من التلاشي. وكأن بين الطرفين توزيعًا غريزيًا للأدوار، تحكمه الفطرة، لا قوانين المجتمع وحدها.
لقد تنبَّهت الأعمال الأدبية مبكرًا لهذه الفجوة بين وهم النصر وحقيقة الإنسان. في القرن السابع عشر، كتب (ميغيل دي ثيربانتس) روايته الخالدة (دون كيشوت)، ليجسِّد من خلالها سذاجة مَن يغتر بصور البطولة ويتوهم أن العالم ميدان مفتوح للملاحم. كان بطله، الفارس الحالم، نموذجًا صادقًا للرجل الذي يخوض المعارك من أجل فكرة، لا واقع، وينتصر في خياله فقط، بينما يخسر في الواقع مرارًا.
وفي القرن الثامن عشر، قدَّم (فولتير) روايته (كانديد) ليهاجم أوهام التفاؤل في عالم يعجُّ بالشرور، وعلى رأسها الحرب. من خلال رحلة بطله الساخرة، فضح فولتير الزيف الكامن خلف الشعارات، ووجَّه نقدًا مريرًا للادعاءات التي تبرر العنف باسم الخير والحرية.
فالحرية، من منظور ذكوري خالص، تبدو كأنها معركة لا تنتهي، والحرب - بالنسبة للبعض - ليست فعلاً مأساويًّا بل طقسًا ضروريًّا، وإن كان ذلك مجرد وهم. فالإيمان بأن توقف الحروب يُعادل العبودية هو عبودية من نوع آخر، عبودية للمورثات والمعتقدات المشوَّهة، التي تحوِّل الحرية إلى قيد جديد، ومعركة إلى الأبد.
وحدة - حرية - استقلال
صمم الموقع بواسطة [حاتم]