المرأة ليست خزنة

إن كَدَّ الملايين من الشباب يُصلب على نحور النساء، يُلف على خصورهن، يُعلق في أطرافهن، وليس ثمة جدوى من ذلك على اقتصاد البلد.
لستُ هنا بصدد الحديث عن غلاء المهور، بل عن نوعيتها، فباعتبار المهر وسيلة لتأمين مستقبل المرأة في حال تعثر الزواج لا يعني وجوب كونه ذهبا، بدلا من اقتناء الذهب يستطعن النساء عمل مشاريع صغيرة من مال مهورهن، بعد فترة من زمن الاستثمار ستعود هذه المشاريع بأرباح شهرية لتشكل رافدا ماليا يخفف من وطأة تردي الأوضاع الاقتصادية على تلك الأسر.
تبلغ قيمة المهر في عموم اليمن بين ثلاثة إلى خمسة ملايين ريال يمني (قديم)، ولنا أن نتخيل كم سينتعش الاقتصاد اليمني لو أن هذه الأموال تتحرك في مشاريع استثمارية نافعة، وكم ستستوعب من الأيدي العاطلة عن العمل والتي تُقدر نسبتها بـ 18% بحسب إحصائية موقع تريدينغ إيكونوميكس للعام 2023.
أليس هذا أفضل من جعل الذهب مجرد زينة، ومال متجمد ينتظر أحلك الأزمات ليقدم المساعدة؟
وإذا ما تحدثنا عن الزينة فثمة حلي ومعادن لا تقل جمالا عن الذهب، مع أنها أقل منه كلفة بكثير، كما توجد معادن رخيصة تحاكي المعدن الثمين في هيئتها ولونها.
لكن المشكلة الأعمق تتجاوز مسألة البدائل إلى طبيعة التعامل مع الذهب نفسه. فالمفارقة الأكثر إيلامًا لا تكمن في تحويل هذه الأموال الطائلة من دائرة الإنتاج إلى دائرة الجمود فحسب، بل في تحويلها إلى حلقة مفرغة من الاستهلاك المُرهق، فما أن يستقر الذهب في جعبة العروس حتى تبدأ معاناتها الجديدة - معاناة لا تنتهي مع تقلبات الموضة وضرورات التجديد. فكما يخضع قطاع الأزياء لدورة موسمية متجددة، أصبح الذهب هو الآخر خاضعًا لموضة متقلبة، تفرضها حرفة تسويقية بارعة تقوم على استغلال هذه الثروة المُجمّدة.
إن ثقافة جعل الذهب زينة لم يضيع على النساء فرصة استغلال أموالهن فحسب، بل جعل منهن أنفسهن عرضة للاستغلال، وذلك من قبل تجار الذهب، فالنساء اللاتي يقررن "مواكبة الموضة" في زينة الذهب، يستبدلن ذهب "الموضة القديمة" بـ"ذهب الموضة الجديدة" بفارق سعر هائل، يزيد بكثير عن علميات الاستبدال المماثلة في بقية السلع، رغم أن السلع الأخرى تقل كفاءة قديمها عن كفاءة جديدها، بعكس الذهب الذي يتساوى القديم منه بالجديد. إذن من أين جاء فارق السعر الهائل بين سعر "الموضة" القديمة والجديدة؟
إنه سعر الموضة فقط، وهو سعر لا يتناسب مع خسارة الصائغ وجهده في صناعة الموضة الجديدة، إنه استغلال محض لثقافة الذهب زينة.
وهذا الاستغلال التجاري يصبح أكثر إيلاماً في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الذهب الذي يشهده العالم مؤخراً إذ بلغت أسعار الذهب يوم الجمعة الماضية أعلى مستوى لها في التاريخ، إذ بلغت3000 دولار للأوقية الواحدة، وفي ظرف أربعة أيام فقط تجاوزت أسعاره 3500 دولار للأوقية الواحدة، هذا الارتفاع الهائل في أسعار الذهب ينبئ بالمزيد بحسب خبراء الاقتصاد، وقد سجلت الأربعة الأشهر الماضية من العام الجاري ارتفاعا بنسبة 14% في أسعار الذهب، هذه الأرقام الصارخة لا تدع مجالاً للشك بأننا أمام مفترق طرق: إما أن نستمر في تقليد يجمد ثرواتنا في زوايا النسيان، أو نتحول إلى رؤية جديدة تحرر الذهب من قيود الزينة لتطلق طاقته الاستثمارية. فما قيمة هذا المعدن الثمين إذا ظل حبيساً حول الأعناق، بينما يمكنه أن يصبح بذرةً لمشروع ينهض بالأسرة؟ وما فائدة الموضة المتقلبة إذا كانت تستهلك أحلامنا كما تستهلك مجوهراتنا؟
الخيار بين يدينا الآن - بين امرأة تتحول إلى خزنة متنقلة، وأخرى تمسك بمفاتيح التنمية. بين مهر يختفي في صناديق الظلام، وآخر يضيء طريق المستقبل. لقد آن الأوان لاختيارنا أن يكون مختلفاً، لأن كل لحظة تمضي ونحن متمسكون بهذه العادة البالية، هي فرصة تضيع من بين أيدينا كجرامات الذهب المفقودة.
وحدة - حرية - استقلال
صمم الموقع بواسطة [حاتم]